حسن فاتح
صنفت سلطات الحماية الفرنسية مدينة الجديدة ضمن بلديات المغرب منذ ظهير 8 أبريل 1917، واحدثت بها لجنة للتسيير تسمى لجنة البلدية، بعدما اصبحت تتمتع بشخصية مدنية واستقلال مالي، اضافة الى مؤهلات اخرى تاريخية واقتصادية، وموارد مالية قارة من ضرائب مباشرة وغير مباشرة، يترأس هذه اللجنة الباشا او الخليفة، وهي مكونة من اعضاء فرنسيين ومغاربة ويهود، ينتخبون او يعينون لمدة ست سنوات، وتجدد اللجنة بالنصف بعد مرور ثلاث سنوات.
هؤلاء الاعضاء تختارهم فرنسا وفق قدراتهم ومكانتهم في المجتمع، من أجل البث في مجموعة من القضايا والمشاريع، تهم تصاميم تهيئة المدينة، المرافق الصحية، الضرائب، نزع الملكية …، وكذا الاستشارة في أمور سياسية تحتاجها السلطة المركزية، مع ضرورة تواجد مستخدمين اثنين للسلطة المركزية يمارسان سلطات المقيم الفرنسي، وهما الباشا ورئيس مصلحة البلديات.
من الأسماء الدكالية البارزة التي شغلت مناصب مهمة بلجان بلدية الجديدة في فترة الحماية الفرنسية، نذكر المولى الحاج سعيد بن الشرقي التاجر، احمد بن الحاج محمد بن ادريس، الحاج احمد بن علي ابو ملحة ، محمد بن الحاج احمد الهلالي، موسى بن الحاج عبد الله المدعو موسى ولد الفقير، الحاج الزوين بن داغة.
والى جانب هؤلاء الأعضاء المسلمين كان هناك ستة من الفرنسيين المسيحيين وهم: “ويفو مرسيل”، “جيمنيز فرانسوا”، “اسكوفوني لوك”، “نيكولس جان”، “افلانس هنري”، وعضوان يهوديان وهما “اميال شلومو” التاجر، “بنسمحون شلومو” الحاسب.
وبالرجوع للأعضاء المسلمة المعينة ضمن لجنة بلدية الجيدة نجدها كانت تنتمي للعائلات الدكالية المعروفة والميسورة، ولها جدور تاريخية بالمنطقة، فعائلة بن الشرقي كانت معروفة بأنشطتها التجارية على الصعيد الاقليمي والوطني، وعائلة بن دريس كانت تتخصص في المعاملات والوسطية بفعل الحركة التجارية النشيطة لميناء الجديدة، عائلة بوملحة تعد من العائلات الفلاحية الغنية على مستوى منطقة دكالة بتملكها لأراضي فلاحية شاسعة، وعائلة الهلالي المنحدرة من منطقة بني هلال كانت كبيرة في انشطتها التجارية، أما عائلة ولد الفقير فكانت متخصصة منذ وقت مبكر في مجال نقل المسافرين، فيما كانت عائلة بن دغة من الملاكين والاغنياء الكبار ولها عقارات وفيرة في ضواحي مدينة الجديدة.
يبدو أن أجمل ما بني بمدينة الجديدة قد شيد في فترة المجالس البلدية التي كان يتكون أعضائها من ابناء الاعيان وابناء العائلات الكبرى، وكأن المعمر الفرنسي تعمد في اختيار ممثلي ساكنة الجديدة من بين الاعيان حتى لا يكون اعتراض حول مشاريع تنمية عمران المدينة، لان اولئك الاعضاء يملكون تجارب ومعارف مهمة حول الحضارة والتمدن، ويمتلكون ايضا مستويات دراسية مقبولة، وعقولهم متفتحة بفعل الاحتكاك مع الفرنسيين.
يرجع تاريخ بناء آخر معلمة عمرانية بمدينة الجديدة الى ما قبل الاستقلال، فكل ما شيد في عهد تلك المجالس البلدية كان جميلا وصلبا، ومن جملة ما تحتفظ به المدينة من ذلك الزمن الجميل نخص بالذكر مسرح عفيفي، مركز البريد، بنك المغرب، عمارة الكوهن، المنارة، دار التسجيل، بيرو عرب، حديقة المارشال اسبيني، حديقة المشير ليوطي، حديقة غالييني، و”كازينو البحر” المعلمة المهدمة، وفندق مرحبا المتخلى عنه…
وفي عهدهم كذلك كانت المدارس تبنى وفق شروط صحية ببهو واسع مليء بالاشجار، والمستشفيات كانت تشفي المريض قبل ان تمتد له يد الطبيب على العليل، الحدائق في ابهى حلة بالأزهار والصهاريج، مرافق الرياضات متعددة ومتنوعة، أما الشاطئ فقد كان في ابهى حلة بحجراته ودكاكينه ومستودعاته وملاعبه ومرافقه …
كما كان يسود نظام راق داخل المدينة في ظل هذه اللجان البلدية من حيث الأنشطة التجارية، المتاجر واصحاب الحرف منظمة حسب المهن، النجارون والحدادون والخرازون وبائعو المنتجات الفلاحية كل في مكانه، وتبقى الشوارع والازقة والمراحيض العمومية نظيفة، أما الوافدون من البادية فيكونون مجبرين على تأدية واجب الدخول الى المدينة “ضريبة الصنك”، مع ترك دوابهم عند مدخل المدينة، ومغادرتهم لها فبل مغيب الشمس.
لكن في زمن الديموقراطية المشبوهة، أصبحت المدينة خاضعة لمنطق التخلف والتراجع، ما دام ان اعضاء المجلس البلدي المنتخب في زماننا هذا لا يعرف قيمة التاريخ والعمران والحضارة.
لقد ضاع كل شيء جميل بمدينة الجديدة…